Sunday 27 April 2014

هذا الصبي


بعد يوم عمل طويل إتجهت إلى محطة مترو الأنفاق الأقرب إلى محل عملي ،  هذا التوقيت من اليوم يعتبر في معظم أيام الأسبوع أقل فترات اليوم إزدحاما في مترو الأنفاق والذي ادعوه "شريان العاصمة".
ما أن فتح المتر أبوابه حتى أطلقت قمري الصناعى للبحث عن المعدن النفيس"وفي مثل هذه الحالة يعتبر مقعد خالي" لإن الطريق إالى منزلي طويل جدا وتحمل الوقوف كل هذه المسافة من منغصات الحياة بالنسبة إلي، وفي لمح البصر رصدت مبتغاي  وفي سرعة البرق كنت أجلس في مكاني المفضل بجوار النافذة وإن كنت أعلم ان هذا المكان يهرب منه الناس في الأونة الأخيرة لإتنشار ظاهرة سرقة الهواتف .. ولكنى لازلت أفضله .
وكما هي عادتي ، أخرجت من حقيبتي سماعة الأذن وكتابي  لدخول ما أدعوه بـ "فقاعة الإنعزال" فموسيقاي وكتابي هما منقذاني من النقاشات السياسية الرائعة والتي تظهر مدة براعة وحنكة جميع طوائف الشعب في التحليل السياسي والعسكري.
 وينقذاني أيضا من المستوى الرائع من الموسيقى العربية هذه الأيام والتي اشتهرت بسلاسة وبساطة كلمتها مثل " هاتي بوسة يا بت .. هاتي حتى يا بت " . ولم يكتفي رواد هذا النوع من الموسيقى بهذه الروعة فقط بل أضافوا الى موسيقانا القديمة "المتردية المستوى بالطبع" بالنسبة لهذا الفن الرائع ، حيث أتوا برائعة "وديع الصافي" "على رمش عيونها " وأضافو عليها الكثير ، لدرجة أن من كان يستمع لتلك التحفة ليستمتع بحالة من "الروقان" على صوت "وديع الصافي"، الاّن تصبه حالة أخري مختلفة تمام وهو يشاهد .. وأنت تعلمون البقية.
والإنعزال أيضا من النوع الأخر من الموسيقى وهو السباب المتواصل سوء على محمل الجد او الهزل ، وبطبيعة الشعب المصري المبتكرة أصبحت هذه الموسيقى لغة للتواصل بين السيارات بإختلاف انواع السباب المتنوعة .
ثم بدأت دخول الفقاعة فعلا ،أخرجت كتاب لم أكن بدأت قرائته بعد ،وأخرجت هاتفي لإختيار الموسيقى اللائقة بالكتاب، حيث أن الكتاب المناسب مع الموسيقى المناسبة هما في إعتقادي "المخدرات المشروعة".
إلا إني ما أن أخرجت الهاتف حتى وجدته يصرخ من ضيق المساحة لأنه يحاول استقبال رسالة جديدة "معاناة لن يدركها سوي أصحاب الهواتف البسيطة" . أخذت ألعن هذا الهاتف وألعن يوم شرائه لأنه طوال الوقت يفقدني أعصابي بسبب قدراته الضعيفة و قدراتي أنا المادية الضعيفة .
وفي أثناء معاناتي اليومية لحل هذه المشكلة ، لاحظت ولاحظ كل ركاب العربة دخول طفل لما تتخطى سنوات عمره العشرة أعوام ملئ بالأتربة ومبعثر الهيئة ويبدو عليه الضياع ، انه أحد الأطفال الذي ما ان تراه حتى يثير الشفقة في قلبك ويثير الإشمئزاز أيضا . تملئ عين الطفل الكثير من النظرات العابثة و الغير مبالية .
وبالطبع راود الركاب الشعور بالإحتقار"مع بعض العطف" لرؤية طفل يسعى جاهدا للتخلص من طفولته من نظراته التي توحي - أو كما يحاول ان يظهر- انه شاب في ريعان شبابه بنظراته الجريئة والمتحدية لكل من وقعت عيناه عليه ، انه هذا النوع من الأطفال الذي ماإن أغمضت عينك لدقائق لتجده يتحول الى متحرش صغير ثم متعاطي لكل أنواع المخدرات ثم بالنهاية مجرم خلف القضبان .
ثم صعد خلفه رجل أشيب يبدو عليه في العقد الخامس تغمر عينيه وملامحه أثار الزمن من خبرة وصبر وتحمل . يبدو كوالدك أو أحد أقاربك ، عرض عليه أحد الشباب مقعده لكنه شكره ورفض وقال له انه احق بالمقعد لأنه سبقه ، "ما أعظم هذا الرجل " رغم كبر سنه لكنه يرفض ما لا يحق له.
أما الطفل فيبدو عليه أنه في تجربته المنفردة الأولى لأنه في لحظة لاحظ أحد الشباب يقوم بإيقاف أحد أبواب عربة المترو بإستهتار للسماح لصديق له باللحاق بالمترو . في لحظات تحولت كل نظرات الطفل العابثة والمتحدية الى نظرات من الذهول والفضول في لحظات عاد الى حقيقته "طفل".
في لحظات ظن الطفل انه أمام إكتشاف ، شيئأ جديدا لم يعهده من قبل ، وبفضول الطفل أقبل على الباب منتظرا المحطة المقبلة ليمارس تللك اللعبة التي رأى اّخرون يلعبونها.
مارس الطفل هذه اللعبة مرة ، ينتظر فتح الأبواب ثم يوقفها قليلا  ثم فعلها ثانية في المحطة التالية وفي كل مرة كانت ملامح البراءة والطفولة والسعادة تظهر عليه أكثر وأكثر .
ولكن هذا أزعج الكثير من الركاب "وأنا منهم بالطبع" وتحدث الكثيرون بسوء تربية هذا الطفل أو انه لم يجد من يعلمه الأخلاق من الأساس . وهنا تطوع شيخنا بأن طالب الصبي بمنتهى الهدوء أن يكف عن ذلك لأنه خطأ و ظهر  على هذا الرجل أنه أحد هؤلاء الحكماء الذي يسبق لسانه كفه "فعلا ما أروع هذا الرجل".
لكن الصبي أستمر في هذه اللعبة وكأنه لم يسمع كلام الرجل الذي في سن أبيه وتجاهله وتواصل حديث الركاب مع ارتفاع أصواتهم  عن أخلاق الطيبة التي أصبحت من الماضي كيف لا يستمع هذا الصبي لرجل يعد بمكانة ابيه بل جده .
ثم بدأ شيخنا بنهر الطفل بصوت مرتفع قليلا وبتقديم النصائح له . ولكن هذا الصبي المفتقر لأبسط أنواع الأخلاق و التربية لا يلتفت حتى للرجل العجوز "منتهى التجاهل".
كرر الرجل هذا الأمر مرة و ثانية وثالثة ، حتى فاض به الكيل . كيف لا يفيض لقد أصاب هذا الطفل نصف الركاب بالجنون ، ثم توجه الرجل وهو في ثورة غضب وأمسك بكتفي الطفل وأخذ يعنفه وينهره بشدة ويوجه له العديد من الألفاظ والجمل اللي تدل على مدى سوء تربية هذا الطفل و يسأله أين هما أبواه ليتركاه هكذا بلا أي نوع من الأخلاق .
فطوال المدة التي أخد الشيخ يصرخ في الطفل، كان يغمر ملامح الصبي نظرات رعب وهلع ممزوجة بدهشة ، وسط تشجيع من جميع الركاب على انا هذا الطفل وإن لم يجد من يعلمه أبسط قواعد التربية فليعلمه هذا الشيخ راجح العقل الذي تبدو عليه علامات الخبرة العميقة .
و هنا حدث شئ عجيب ، فرد فعل الصبي كان قوي ومفاجئ للجميع .
هنا جاء دور الصبي ..  فما أن أفرغ الشيخ ثورة غضبه على الصبى .. جاء دوره .
صرخ الطفل بكل الأنفعال صرخ الطفل  و تبدلت ملامحه لتصبح ثروة غضب حقيقية .
صرخ الطفل وكأنه لم يصرخ في الشيخ فقط وكأنه يصرخ فينا جميعا
صرخ الطفل ولم ينطق بحرف واحد .. صرخ ليعلم الجميع أنه "أبكم" .. وأنه لم يكن هذا الصبي العاق المشاكس  .. ولكنه لم يسمع كلمة من هذا الشيخ أو من غيره .
صرخ كأنه يصرخ بداخلنا صرخة أبكمتنا نحن .. نحن من حاكم الطفل وأصدر الحكم بدون حتى سماع تفسير أو حتى بالإفتراض بوجود خطأ ما.. نحن من أفترض قبل كل شئ بسوء تربية الطفل اعتمادا على هيئته الرثة ونظراته الشرسة  .. نحن من لم يعطي الطفل فرصة حتى للتعبير عن ما بداخله ..
 الاّن سكت الجميع..
 سكت النقاد..
 سكت القضاة..
 سكت الحكام ..
أنهى الطفل صراخه وهو يشاهدنا جميعا وفي لحظة صمت اغروقت عينه بالدمع بلا صوت . انه كبريائه اللعين الذي يمنع دموعه المكابرة من الإنهمار وهو أيضا ما جعله يخفي عن الجميع انه أبكم . لحظة من الزمن لعن كل راكب نفسه بأبشع اللعنات وإن لم يصرح بها . لحظة هي  كل ما أحتاجها الطفل حتى يتركنا في أول محطة لنراه جميعا يجلس على مقاعد الأنتظار وينهمر في البكاء وليطلق أخيرا العنان لدموعه المكابرة .
تركنا الطفل أمام عرينا الأخلاقي  .. أمام مبادئنا العظيمة العمياء اللتي أعلنا بها المحاكم على ظروفنا نحن وما يناسبنا نحن ، دون النظر الى ظروف الأخرين دون حتى الإدراك بأن ليس جميعنا خلقنا أصحاء.
تركني أنا هذا الطفل لأتذكر مدى معاناتي مع هاتفي منذ دقائق كيف كنت أجن بسبب بعض المساحة ..
 تركنى الطفل مع جملة قرأتها في أحد الكتب ..
بعض المشاهد تدركنا مدى تفاهة الحياة .. "وتفاهتنا" .  
   
  

المقدمة


في حياة كل واد فينا مشاهد شافها أوعاشها وكان جزء منها.
حصلت قدام عينيه أو إتحكيتله وتخيلها أو حتى حلم.
المهم إن كل مشهد بنشوفه بيسيب جوا كل واحد فينا حاجة، كلمة سمعها، تعبير ملامح أو حتى نظرة عين.
في الآخر المشاهد مكون أساسي لشخصياتنا، يعني مثلا ممكن تشوف مشهد يغيرلك حياتك 180 درجة حتى لو مكنتش طرف فيه، أو ممكن تشوف مشهد يحسسك بتفاهة الحياة وتفاهتك، أو مشهد تاني يخليك تحب الحياة.
الفكرة عمرها ما كانت في الشيء اللي بيحصل قدامك، الفكرة دايما في طريقة استقبالك للمؤثر الخارجي ده.
إزاي مثلا ممكن  تستقبل مشهد دموي في فيلم ؟
 احتمال تتأثر جدا ومش بعيد المشهد ده ممكن يفضل معكنن عليك لمدة، أو احتمال تقول لنفسك كل ده أي كلام في أي كلام و دلوقتي المخرج يقول “cut”  وكل الناس اللي انت شايفها ماتت دي وأعضائها طارت في الهوا هتقوم تروح وتكمل يومها عادي جدا.
طب إيه رأيك في حلقة في برنامج "talk show
هتنفعل مع المحاور والضيف وهما بيبينوا قد إيه قلبهم على مصلحة البلد؟؟ ولا هتضحك بينك وبين نفسك وتقول "كلكم كدابين ولاد ..."
طب هتعمل إيه لو شوفت واحد بيشحت؟
هتقنع نفسك إنه "حرامي ونصاب وتلاقيه أصلا بيكسب أكتر منك"؟
ولا هتتأثر جدا ويبقى هاين عليك تاخده معاك البيت وإنت مروّح ؟
ولا أنت ولا ده ولا ده.. وهتفكر "سواء كان نصاب أو فعلا محتاج أنا كده كده
هديله اللي هقدر عليه وأنا كده كده باعمل الخير المهم نيتي"
مشاهد كتير أوي في حياتنا بتحصل كل يوم، مش مهم بتحصل فين أو إزاي أو مع مين، المهم إنها بتحصل ومينفعش نغمض عيوننا عنها، والأهم إزاي بنتأثر بيها.